-->

الاثنين، 23 يناير 2017

"ذاكرة شرير" لمنصور الصويم بالفرنسية - أنطوان جوكي



*
أنطوان جوكي - باريس

لا يزال الاهتمام متواصلا برواية السوداني منصور الصويم "ذاكرة شرير" رغم مرور سبع سنوات على صدورها، فبعد نيلها جائزة "الطيب صالح" عام ٢٠٠٥ وحصدها إثر ذلك اهتماما لافتا في عالمنا العربي، وضعت المترجمة فرانس ميير ترجمة فرنسية للرواية صدرت حديثا عن دار نشر "فيبوس" في باريس.

موضوع الرواية -وبطلها- كسيحٌ يدعى آدم كسحي فقد والدته وهو طفل صغير، فاحتضنته متسولات صغيرات وعلّمنه فنون التسوّل والاستجداء، وكيفية البقاء على قيد الحياة في شوارع مدينة لا رحمة فيها ولا أمان لمن يعيش حالته إلا مع الهامشيين والبؤساء مثله. وبفضل ذكائه الحاد وذاكرته المذهلة، لن يلبث هذا الطفل أن يتجاوز عاهته ومأساته ويؤدّي جميع المهمّات التي ستُلقى على عاتقه.
بموازاة التسول والاحتيال والسرقة وتجربة السجن، سيجد آدم الطاقة والشغف والوقت لتحصيل ما يتوفّر أمامه من علم، فيتثقّف باكرا على يدي معلمَين وضعهما القدر على طريقه، ويحفظ القرآن  ويتعمّق في دراسة العلوم الباطنية.
وبدلا من التذمّر والقنوط جراء ظروف حياته الصعبة ومِحَنها المتتالية، يبرهن آدم باستمرار عن اندفاع وإقبال كبيرين على الحياة يجلبان له الشهرة والاحترام والمال في نهاية المطاف.
ينجح الصويم في تحويل حياة مطبوعة سلفا بالفشل واليأس والعنف إلى قصة شبه أسطورية. فنتابع على طول الرواية مغامرات بطله، منذ الطفولة وحتى سن الرشد، وتطوّر علاقاته المثيرة مع أطفال الشوارع والمعاقين والمحتالين ورؤساء العصابات، لكن الروائي لا يسعى من خلال ذلك إلى الانتقال به من العتمة إلى النور بل يبقي آدم "شريرا" حتى النهاية تتسلّط على قدره لعنة ولادته ونشأته.
ولعل هذا ما يفسّر تعاطفنا الشديد معه ومع رفاق دربه وتأثرنا داخل كل فصلٍ من فصول هذه الرواية التي تكمن أهميتها بالتحديد في تصويرها، للمرة الأولى ومن الداخل، حياة أطفال الشوارع والمهمشّين في مدينة الخرطوم، أولئك الذين يجازفون كل يوم بحياتهم من أجل كسرة خبز ويفترشون الأرض خلال ساعات الليل ويحاربون جوعهم وفقرهم المقدع بمخدرات رخيصة في انتظار موتهم المحدق.
"يتمكن الصويم من منحنا نصّا سرديا حيويا ومليئا بالألوان توقّعه رغبةً شديدة في الحياة، ويمدّ بطله بدرجة عالية من الفكاهة والسخرية الذاتية "
حيوية النص وحميميته
ولتعزيز واقعية هذا التصوير وحميميّته، اختار الصويم توكيل شخصيته الرئيسية مهمة سرد أحداث حياتها، وبالتالي استخدم ضمير الأنا في معظم النص، وضمير المخاطب في بعض المقاطع القصيرة، كما اعتمد على تقنية سرد تتلاءم مع حالة التذكّر التي يحضر فيها آدم على طول الرواية، وتقوم على تداعي الأفكار وعلى التلاعُب بالزمن عبر التقدم أو العودة إلى الوراء لإنارة الأقدار المروية.
ورغم سوداوية الواقع المصوَّر، يتمكن الصويم من منحنا نصّا سرديا حيويا ومليئا بالألوان توقّعه رغبة شديدة في الحياة. وفي هذا السياق، يمدّ بطله بدرجة عالية من الفكاهة والسخرية الذاتية، ويقابل عنف قدره وقسوة ظروفه بمزاجه الذي لا يتعكر ومخيلته الواسعة وذكائه في تدبّر أموره.
أكثر من ذلك، نتعرّف حول آدم على شخصياتٍ فريدة يصعب نسيانها، وإن عرفت جميعها نهاية تعيسة كوهيبة، الأم البديلة، التي تعود إلى الشارع بعد القبض على زوجها الشيخ الفاسق، وسلوى التي تصاب بمرض السل، ورحمة التي تموت بمرض الإيدز.. شخصياتٌ تظهر لبرهةٍ فتشكّل سويا عالما إنسانيا متكاملا، قبل أن يحصدها عنف محيطها، الواحدة تلوى الأخرى. وهذا ما يمنح الرواية بُعدا احتفائيا حارّا بأطفال الشوارع ويحوّلها إلى أمثولة في التفاؤل والتضامن.
وأبعد من قيمتها الأدبية الأكيدة، تسمح هذه الرواية لكاتبها بالدفاع من أقرب مسافة ممكنة عن حقوق الأطفال والنساء ومعاقي الحرب، الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها بلا مأوى ولا مُعين. ومن خلال ذلك، يفضح مسائل اجتماعية وإنسانية كثيرة في بلده، كالعنف الناتج عن بطش رجال الشرطة أو عن الحرب المستمرة التي يشهدها السودان منذ فترة طويلة.
كما يتعرض الصويم إلى البؤس المتفشّي جرّاء فساد المسؤولين السياسيين والأمنيين ولا مبالاتهم، بدون إهمال بعض الممارسات المنحرفة الشائعة كالشعوذة والسحر، وسذاجة جزء من المجتمع السوداني حيالها.
باختصار، جاء العمل الأدبي المهم الذي كتبه الصويم على شكل تحية لأطفال الشوارع في السودان، رواية مشيّدة كصرحٍ فني جميل، محزنة بقدر ما هي طريفة، ونيّرة رغم ظاهرها القاتم.

ليست هناك تعليقات

كافة الحقوق محفوظةلـ مدونة منصور الصويم 2016 | تصميم : رضا العبادي