-->

السبت، 19 يوليو 2014

كشَّاف مركز النُّهود- فصل من رواية (آخر السلاطين)



جاء سيدي السلطان علي دينار منذ ثلاثة أيام لتفقُّد معسكر الجيش في جبل الحلة، طاف خلالها برفقة الأمير ود إبراهيم والقائد الخليل ود أكرومة والأمير رمضان وَدْ بُرَّة على ثكنات المقاتلين الجدد من فرسان السواري والمشاة، وتفقّد استعدادات الجيش للحرب القادمة. بدا لي حينها؛ وتلك أول مرة أراه فيها عن قرب وأحادثه وجهاً لوجه، متحمِّساً وواثقاً من تفوُّقه على جيش العدو الإنجليزي، كان بليغاً وهو يخطب في الجنود ويَحُثُّهُم على الصبر والثبات في مواجهة العدو الكافر، وبما أنني لم أكن أنتمي إلى القوات المُقاتِلة، أن كانت من السواري أو المشاة، فلم يسمح لي في تلك الأيام الثلاثة بالطواف مع الوفد السلطاني، وكنت أراهم من بعيد والسلطان سيدي علي ود زكريا يبدو مُتحزِّماً بلباس الحرب، يراجع بنفسه البنادق القليلة بين أيدي الرجال، ويتابع بتمعُّن التدريبات التي أدخلها الضابط المصري الهارب من الجيش الإنجليزي؛ عبد الموجود. كان واضحاً لي وأنا أرقب تطوافهم من على البعد إعجاب السلطان بأنواع البيادة والتمارين العسكرية الجديدة التي جلبها معه هذا الضابط المصري من معسكرات العدو. القادة الثلاثة؛ ود إبراهيم وود أكروما ووَد بُرَّة أعملوا في تلك الأيام الثلاثة كل إمكانات وقدرات جندهم حتى يبينوا لسيدي السلطان أن حدود البلاد مؤمنة، وألا خوف من الإشاعات التي بدأت تتحدث عن اقتراب الجيش الإنجليزي الغازي من النهود، مركز مديرية شمال كردفان. أنا المُقرئ جبريل الطاهر، ومعي ثمانية آخرون، تم اختيارنا بتمحيص شديد لنكون عيون السلطان وكشّافته في جيوب وبلدات كردفان، وعلى طول الطرق المؤدية منها إلى دارفور، لنا معرفة خبيرة بالدروب السفرية، في الصحارى والغابات، لنا أصدقاء ومعاونون في كل حلة أو قرية على الحدود المتداخلة بين دارفور وكردفان، مظهرنا مخادع، يوحي بأننا مجرد فُقرا دراويش وطلاب علم مساكين.


في صباح يومه الرابع، وقبل أن يغادر السلطان معسكر جبل الحلة عائداً إلى عاصمة سلطنته الفاشر، طلب مُلاقاة أولى طلائعنا التي ستتوجه لاستقبال جيش العدو في مركز النهود، وترصد حركاته وسكناته من هناك، وتسعى لكشف استعداداته وحجم قواته وتجهيزاته، وتحاول أن تصل حتى إلى النوايا المخبأة في جَوْف قادته الكفرة. ناداني القائد ود أكروما ومعي الصبي القُرْعَاني المهاجر حسين، وكنت قد اخترته ليكون مرافقي وشريكي وتلميذي في رحلتي الكشفية إلى مركز النهود، والبلدات التي في الطريق إليها. الصبي القُرعاني حسين، التقيته في مَسِيدٍ لحفظ القرآن في قرية الطويشة، كان يدرس مساء مع بقية الْمُهَاجرين الصغار، ويرعى الأغنام والضأن وحيداً في الصباح الباكر، كنت أقتفي أثر بعض الهمباتة النهابين ممن تطلب القبض عليهم محاكم السلطنة في الفاشر، حين صادفته يسوق أغنامه أمامه لترعى أعشاب خريف ذلك العام. سألته إن صادف خمسة رجال يركبون الجمال ويسوقون أمامهم مُرَاحاً* من الضأن، فأخبرني أنه لم يصادفهم وإن كان يُخمِّن أنهم ساروا في طريق الضعين، لأنه صادف عند ربوة شجر الهجليج التي يتفرع منها هذا الطريق أشجاراً مخروطة الأوراق ولمدى بعيد. لمحت في عينيه ذكاء وقّاداً وأنا أحادثه وأسأله عن أقصر طريق يمكِّنني من قطع السكة على الهمباتة الخمسة، ويضعني أمامهم مباشرة، بعد أن أجتمع برجالي المتفرقين في الأنحاء لنواصل مطاردتهم. جلس على الأرض ورسم على الرمل خريطة دقيقة، لم يغفل فيها موقع شجرة أو تلاً رملياً أو منخفضَ وادٍ، كنت أتابعه وهو يشرح بسرعة ودربة مسالك الطريق المختصرة وشعابها، وأقرر بيني وبين نفسي أن هذا الولد الأقْرَع ، أصفر اللون، خُلق ليكون كشافاً. أطحنا بالهمباتة واستعدنا مراح الضأن، والإبل المسروقة، ثم عدت بعد شهور إلى قرية الطويشة وبحثت عن الصبي إلى أن وجدته في مسيد الحلة يُرتّل القرآن وكأنه مقرئ ضليع بالقراءات. أخذته للتدريب ومضيت.


دخلتُ إلى خيمة قادة الجيش، ومن ورائي الصبي حسين القُرعاني، وجدنا سيدي السلطان علي دينار يجلس على كرسي خشبي عالي القوائم، وقريباً منه يقف القادة الثلاثة ومعهم الضابط المصري الهارب عبد الموجود، جثونا على الأرض ونحن نسلم على سيدي المنصور بإذن الله. سألني عن اسمي وقبيلتي، ومنذ متى التحقت بكشافة الجيش الأول. أجبته بما يليق بمقامه. فاجأني بسؤال فقهي حين قال:


- هل يجوز التجسُّس على الكفَّار في حالة الحرب؟ وما حكم ذلك شرعاً؟


فأجبته بما أعرف قائلاً:


- قال الله تعالى في سورة النساء (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)، وفي تفسير هذه الآية يا سيدي السلطان جوَّز العلماء التجسُّس على الكفار لمعرفة عددهم وعتادهم الحربي، حتى لا يسببوا الأذى للمسلمين ويفسدوا في أرض الله.


فباغتني بسؤال آخر في علوم القرآن، فأجبته باستفاضة بما أعرف وأعلم في هذه المجال من بحر الدِّين الواسع، بدا راضياً عن إجابتيَّ على السؤاليْن الدينيين وهو يتوجه إلى بسؤال آخر:


- من هنا حتى مركز النهود كم عدد الآبار التي يرتادها الناس لشرب الماء، وبين أيُّها تطول المسافات؟


فأحصيت له ثماني آبار، تبدأ من النهود وتنتهي داخل معسكرنا في جبل الحلة، وهي أبعدها في المسافة لأنها تفصلها عن السابعة مسافة ثلاثة أيام من السير الحثيث.


صمتُّ وأنا أحسّ بالقائد ود أكروما يحدِّق بي فخوراً، بينما السلطان يتأملني مُتفكِّراً. تساءل:


- والصبي؟


قلت:


- حافظ لكتاب الله وخبير بالدروب وقصّ الأثر، سريع البديهة، قوي الملاحظة وواسع الحيلة عند الملمَّات.


التفت السلطان إلى الصبي القُرعاني، الذي كان يجلس هادئاً ومؤدباً، وجه كلامه إليه:


- اقرأ آيات من سورة القارعة، يا ولد.


قرأها كاملة. فطلب منه السلطان آيات من سورة أخرى، وأدخله في امتحان تجويد قصير اجتازه بنجاح. وختم قراءاته بأهزوجة في مديح سيدي السلطان علي دينار، مما جعله معتدل المزاج، وراضياً عنا. ترنَّم الصبي الداهية:


فُقَرا شِيلُو الجَلاَلة لِعلِي ود زَكَرِيا


فاَطِمْة بِتّ النّبي نُور أبُوكِ زيَّ الْقَمْرْ مَا بِنطَفِي


فُقَرا شِيلُو الجَلاَلة لِعلِي ود زَكَرِيَا..


في نهاية اللقاء القصير، ناداني السلطان وسلّمني رسالتين مطويتيْن وقال:


- هذه تُسلّم للشيخ أحمد خليل الفكي، في جامع حي الطويشة، والأخرى للفكي جلالين في حي تاما، الاثنين جُوَّا النهود. إياك أن تضيعهما.


أخذت الرسالتين بكلتا يدي ورأسي خفيض. وأضاف السلطان:


- انطلقا في أمان الله، ولا تتأخرا في رسائلكما وفي نقل كل ما يدور في معسكرات جيش الكفرة الملاعين.


تزوّدنا بالدقيق والكسرة اليابسة، والدَامْسُورَا والقليل من التمر والفول السوداني ومسحوق السمسم المملح وسمك الكجيك، ملأنا الخُرْج بالماء من آبار جبل الحلة، حملنا ألواح القراءة والدوايات على الحمارين، ركبت أحدهما وأركبت الصبي القُرعاني الآخر، تأكدت من سلاح حمايتنا؛ سيفي وسكيني وسفروك الصبي القُرعاني. خرجنا فجراً من معسكرات جبل الحلة وتركنا وراءنا الفرسان يبدأون أول تدريباتهم العسكرية تحت إشراف الضابط المصري الهارب عبد الموجود.


وصلنا إلى قرية أم شنقا قبيل مغيب شمس يومنا الأول من مسيرتنا صَوْب مركز النهود، عبرنا بالقرب من الخندق القديم المحفور في شكل قوس حول ربوة أم شنقا العالية. حدّثت الصبي القُرعاني عن الحرب التي دارت قديماً بين جيش الترك وجيش سلطنة الفور: “عسكروا قبل سنوات طويلة في هذا المكان وحفروا هذا الخندق العميق وهم في طريقهم لمحاربة سلطان دارفور السلطان الفضل”. فكرت وأنا أقصّ على الصبي شيئاً من سيرة الحرب القديمة أن المكان سيكون مناسباً لإقامة معسكر لجيش الإنجليز الملاعين لو خرجوا من مركز النهود متجهين إلى الفاشر. فاجأني الصبي القُرعاني وكأنه يقرأ أفكاري:


- أَبَّا الفكي، جيش الكفار كان جاء بِعَسْكِر هنا، ومن هذا الخندق سيتحركون لدُواس جيش السلطان في جبل الحلة.


صلينا صلاة المغرب، وأنزلنا من على أحد الحمارين أدوات الطبخ، تحرك الصبي القُرعاني سريعاً وجمع أعواداً يابسة، أشعل ناراً ثم أحضر ثلاثة حجارة ضخمة وصنع منها لَدَايَات للطبخ، أدخل بينها بعض الأعواد المشتعلة، بينما بدأتُ أنا في خلط الدقيق بالماء لإعداد العَصيدة من جهة، وتنظيف سمك الكجيك لتجهيز المُلاح من الجهة الأخرى. تعشينا في وقت يتعدى زمن صلاة العشاء قليلاً، ثم جلسنا حول النار المشتعلة نستدفئ بها. كنت أحدِّق في وجه الغلام القُرعاني بعد أن شبع وارتوى وبدا رائق البال، كم من أفكار خطيرة تدور في هذا الرأس الأصلع! لم أنتظر طويلاً حين سألني:


- أبَّا جبريل، أنت لا تتبع لجيش المحاربين، لكنك في الجيش، كلمني بعملك، هوْ كيف؟


لو سألني هذا السؤال في وقت سابق إما ضللته بإجابتي أو انتهرته والتزمت الصمت، لكن الآن ونحن الاثنان فقط عند أعلى ربوة أم شنقا نستدفئ بالنار ونرتشف في استمتاع كوبي شاي، أحسست بميل غريب لمكاشفته بكل أسرار كتيبة الكشافين السرية، أو عيون جيش السلطان المنتشرين في أصقاع السلطنة البعيدة والأراضي المحيطة بها، إحساس مزعج غزاه يقين عظيم بات يتوالد داخلي أن أيامنا إلى زوال؛ أيام السلطنة والعز، والقوة والمنعة، والبطش والعدل، أيام القتل والرحمة، أيام المجد والرفعة، أيام الثراء والفقر، الجبروت والرحمة، كلها مجتمعة بتناقضاتها وتمثلاتها إلى زوال. لفَفتُ ثوب الفردَة الأبيض على جسدي وقلت لصبي القُرعان حسين:


- أنت ذكي جداً يا حسين وأخاف عليك من العين وحسد الحاسدين وغدر الزمان، أدعو ربي أن يحفظك ويبدلك حالاً أفضل من حالنا ويُبوِّئك مكاناً يناسب فطنتك وشغفك بالتعلم والعمل.. نعم أنا أتبع للجيش السلطاني ولا أتبع له كما قلت. نحن يا حسين نمثل مجموعة كبيرة تسمى في البلاط السلطاني بكشافة الجيش أو عيون السلطنة التي لا تنام. يتم اختيارنا بدقة وبعد تمحيص شديد، وقد تلعب الصدف دورها في اختيار واحدنا مثلما حدث معك حين اخترتك بهدف إعدادك لتكون منا.. ونحن مُقسَّمُون بحسب تراتبية عسكرية معقدة يقتضيها تفاوت القدرات وحجم المخاطر ومكان العمل، لا مدة الخدمة وطولها.. الولاء والتسليم كاملين لسيدي السلطان علي ود زكريا هو ميثاقنا الأوحد ورباطنا الأقوى، نعمل متخفين، نتنقل بمرونة بين البيادر والمدن، الصحارى والغابات، الجبال والوديان.. يجيد الواحد منا عشرات المهن والحرف واللهجات واللغات، قد تجده في مكان ما مزارعاً يشارك الفلاحين حرق مخمسات السمسم بالنار وجمع محاصيل الذرة في الجباريك، وفي مكان آخر تجده تاجراً يسافر في أسواق أُمْ دورور أو يُمتِّر أقمشة الدمورية في السوق الكبير، وقد تصادفه – يا حسين – في خلوة قرآن أو مسيد لتعليم الصبيان وهو في ثوب الفقرا يعظ الناس ويدرِّس القرآن ويعالج الأبدان والنفوس بالأوراد ويسقي الناس مِحَايَة* القرآن؛ لكن الهدف النهائي وخلاصة الخلاصة من كل هذا التلوُّن والتكوُّن هو حماية السلطنة وتثبيت أركانها وفضح نوايا أعدائها والإيقاع بهم قبل تنفيذ خططهم الشريرة المؤذية لبنيانها وعمودها الثابت القائم في منعة من الله، سيدي السلطان علي دينار حفظه الله وأبقاه.. شاركنا يا حسين في كل حروب السلطنة التي دارت في أركان بلاد دارفور الأربعة، بتحركنا الدؤوب وتَغلْغُلنا بين الناس وكشفنا المستور هنا وهناك. أسهمنا في تغذية خزائن السلطنة بالمال وملء مخازنها بالحبوب والمزروعات دون انقطاع، وتزويد جيشها بخيرة المقاتلين الشجعان المختارين نتيجة دقة تقييمنا وسلامة رؤيتنا وبُعد نظرنا. نحن جيش من وراء الجيش يا حسين، سلطنة تظلل السلطنة يا حسين، وقوة تبارك قوة سيدي السلطان علي دينار، وتنشر عدله وجبروته.


كان الصبي القُرعاني يقلب عينيه المليئتين بالأسئلة وهو يستمع لحديثي مقترباً بجسده الضئيل من النار، كنت منفعلاً ولم أستطع أن أُميز إن كان قد فهم كل كلامي أم لا، لكنه بدا لي منتبها بتركيز مع كل كلمة أقولها. سألني في اتجاه آخر:


- صحيح سيدي السلطان يعلِّق الناس من عرَاقيبهم في سجن شالا بالفاشر، ويبني بجسوم الخاينين والسارقين المزروعة في جوالات العيش رواكيب في الخلاء؟


باغتني بانتقاله إلى موضوع آخر يرتبط من جهة معقدة بما كنت أحدثه عنه. إنه يسأل عن المحاكم السلطانية الناجزة، والحكايات المرعبة التي تروى عن سجون السلطنة المظلمة، والويل والثبور وعظائم الأمور التي تطال المتمردين والمارقين والكاذبين والمنافقين واللصوص والخونة، وصنوف العذاب التي يتفنن عسكر السلطنة في إذاقتها لهم؛ حكايات تبتدئ من حشر كامل الجسد في جوالات مليئة بالشطّة والقطط الجائعة، وتنتهي بزرع الأجساد في جوالات الضرابة، لتكون أعمدة لسقوف ومظلات السلطان وقادة الجيش المتنقلة من مكان إلى آخر، والموت لمن يتحرك أو يتململ مجرد ململة. هؤلاء طَيْف كبير من الناس؛ رجال ونساء، نالهم ما نالهم من القهر والعذاب في محاكم السلطنة في الفاشر أو جبل الحلة ومليط وغيرها من المعسكرات الحربية، ونحن الكشافة والعيون لعبنا ما لعبناه من أدوار عظيمة في الدفع بهم إلى أتون العذاب وظلام السجون وهلاكها. قلت لحسين القُرعاني:


- أنت صغير الآن حتى تفهم لماذا يستحق البعض أن يساموا العذاب والتنكيل، لكن افهم هذا وتذكّره دائماً في مقبل الأيام، سيدي السلطان علي حفظه الله، لم يظلم أحداً من الرعية المؤمنة الساعية لمرضاة ربها وحماية بلاد المسلمين، ومن سمعت بتعذيبهم كانوا من المنافقين والخونة والظلمة والسارقين والفاسقين والفاسقات، لم يعلق جنود سيدي علي رجلاً من عرقوبه ولم يبنوا راكوبة بأجساد الرجال لهواً وسدىً، لكن الخائن والسارق جرَّب العذاب كمن يجرب السّم، والمنافق والفاسق تجرع الألم قطرة قطرة إلى أن مات.. تذكَّر يا حسين سيدي السلطان علي ود زكريا وجيشه وفرسانه ورجاله وأمراؤه ونساؤه وأولاده، وعموم شعبه؛ كلنا، نعمل لسلامة البلاد وأمنها وحفظ دين الإسلام.. حاربوا ضد الأعداء في الجهات الأربع وصمدوا وانتصروا، استشهد أبطال وواصل المسيرة أبطال آخرون، والآن يا بني كلنا في مواجهة خطر مَاحِقٍ سَاحِق أقوى وأعظم.. والحافظ الله وما النصر إلا من عنده… هل سمعت بشجرة العدالة، يا حسين؟


سألته، فهز رأسه نفياً.


- إذن اسمع ما أقصه لك وتذكّره جيداً. أمام القصر السلطاني، من جهته الشرقية توجد شجرة لَبَخ هائلة الحجم، ظليلة وكثيفة الأوراق. هذه الشجرة سمّاها الناس في الفاشر وقراها شجرة العدالة، لماذا؟ لأن سيدي علي دينار السلطان العادل الشفوق بشعبه، طلب من كل إنسان له مظلمة أو شكوى أياً كانت، أن يأتي إلى هذه الشجرة ويبقى تحت ظلّها إلى أن يراه السلطان بعينيه من داخل قصره، ويأمر حراسه ليأتوا به ويستمع لشكواه وينصفه أياً كان خصمه، أميراً أو قائداً أو مستشاراً. فالعدل يا حسين أساس حكم سيدي السلطان، تذكّر هذا.


أَحسستُ به لا يزال يختزن بجوفه أسئلة حيرى مقلقة تكبر سنه الصغيرة، لكن الوقت كان قد انسرب في ظلام ليله، وغداً أمامنا مسير طويل. طلبت منه أن ينام وحملت إبريقي ودخلت الخلاء.








منصور الصوِّيم .. مقاربة الشخصِّية والمكان .. بقلم: ناصر السيد النور




آخر السلاطين عنوان لمشروع رواية –Proposal تصوّر - حاز على منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) هذا العام، للروائي منصور الصويم. آخر السلاطين عنوان عمل يُوحي وهو في طور التشكُّل والتخطيط؛ بالبُعد التاريخي مجسداً في شخصية السُلطان علي دينار (آخر سلاطين سلطنة دارفور1596- 1916م). فكما جاء في البيان الصحفي للمؤسسة عن العمل الفائز "عمل روائي تاريخي يستلهم تاريخ منطقة دارفور في فترة ما بعد انتهاء المرحلة التركية وبداية الحكم الإنجليزي المصري، متتبعاً شخصية السلطان علي دينار (سلطان دارفور) صعوداً وهبوطاً كمحرك ودافع أساسي لنمو وتطور الرواية". يتضمن هذا التفسير المقتضب الشخصية والمكان بما لهما من دلالة موصولة بحاضر المنطقة وجغرافيتها الإثنية، فالاختياري الإبداعي لا يمثل - وإن يكن مقروءاً بظروف أخرى - استعادة تاريخية محضة لميثولوجيا متراكمة عن شخصيِّة لها موقع في التصور الشعبي ودور في التاريخ المتسلسل وارتباط وثيق بمأساة الحاضر، أي مرحلة الانقطاع التاريخي وثبات المفارقة للحدث. وقد يقود الاستدلال بالتأمل التاريخي في مصير الشخصية التاريخية إلى استعادة الشخصية إلى مسرح الحدث كعنصر درامي Character متجاوزا الأبعاد النمطية والتعريفات السايكولوجية للشخصية Persona بفعل غياب الشخصية عن المثول والحضور معا في المكان؛ خاصة أن الحدث وقع في فاصل زمني غدا فعلا ماضويا ومكانا يختزل رمزية الشخصية. فالمحيط هنا ليس جدلا هيجلياً لدور الفرد وتأثيره على التاريخ، وإن تكن شخصيات الروايات، وأية شخصية أخرى باختلاق دورها؛ سلطان، شحاذ، امرأة... الخ هي جزء من تحليل بيئة وبنية الرواية. ملاحظة الحدّ الفاصل بين الدور الذي لعبته الشخصيِّة وخلفته من أثر حفظته المدونات وأودع الذاكرة الضمنية Implicit memory الشعبية وتراثهاالمحلي؛ تستدعي عمق الكشف الروائي لما ينطوي عليه النصّ من خطورة. فالتصور أو البناء الروائي لا ينحو إلى تقديم صورة وثائقية مُحسّنة مكتملة الصفات، ومنزوعة النواقص مبرأة العيوب، وهو ضرب من الكتابة لا تحتمله مجتمعات لم تزل مفاهيمها الاجتماعية والأخلاقية مثقلة بالقيود. الاقتراب من المرموزات التي استقرّت في العقل الجمعي لا يمكن للفعل الإبداعي مسّها بغير حذر يدفع به المزاج العام تمشيا مع سائد الخطاب الثقافي والاجتماعي. فالبطل في واقعه التاريخي، قد لا يتحرك بطلا على متن النص الروائي اتساقاً مع منطق البناء الروائي الداخلي، حيث الشخوص وأدوارهم وأثرهم على مجمل الأحداث.
لسنا في حاجة إلى قراءة استباقية لاكتناه ما يتنهي إليه مشروع الصويم الروائي (آخر السلاطين)، ولكن بما أنَّ ملامح شخصية المشروع أخذت تصاميمها الأولية كما جاء في بيان مؤسسة آفاق؛ يمكن لنا أن نتصور استعانة بالاستقصاء الذي سينتهجه السارد لتقديم مسح فني إبداعي تاريخي اجتماعي وبناء شخصية المشروع؛ استلهاما من الحيز التاريخي للمنطقة. شخصية السلطان علي دينار شغلت حيزا مهما في سياق زمني محدد امتزجت فيه السلطة والدين والأسطورة، إلى جانب علاقاتها بالواقع المادي للأشياء من بناء لدولة تؤسَّس علاقاتها - بتعقيد بالغ - على أسس دينية ورؤى محلية تغذيها محدودية واقع السلطنة، في وقت قد لا يشير المكان إلى الشخص، بل العكس تماماً، إذ أن الشخصية أو الفرد بالمعنى السياسي؛ تحتكر الزمان وتطبق على المكان كحقيقة ماثلة. لم يكن آخر سلاطين دارفور توارثاً عابرا في سلسلة حكم عشائري، جسّد من الواقع التاريخي مشروعاً إسلاميا اتصل بمنظمومة الخلافة التركية، واستعادةً متصلة لدولة المهدية في ركن هامشي، أو بقي كذلك في المائة عام القادمة لاستشهاده كآخر الحكام الذين يلقون حتفهم في أرض المعركة؛ وهي ظلال البطولة التي مجدتها الحكاية الشعبية وضنّ بها الأرشيف القومي إلا في حدود رمزية ضيقة، كإطلاق اسمه على شارع مقفر غير مطروق.
إنَّ بالإمكان (تتبع) شخصيات الصويم الروائية في أعماله السابقة، أي مشروعه الروائي وسائر أعماله السّردية الأخرى، فشخصيات أعماله الروائية بدءا من روايته (تخوم الرمّاد) ومرورا بـ(ذاكرة شرير) و(أشباح فرنساوي) - ترجمت جميعها إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية - وجدت مكونها الشخصي ببعدها الاجتماعي في سياق لغة بارزة كثيفة لم تطغ على الملامح الشخصية ودورها في العمل الروائي. يتماسك البناء السردي دون فجاجة في تمثل الشخصية للدور أو التعبير المباشر عن العلاقات الموضوعية بين الفرد والقوى التي تحركه اجتماعياً. الشخصية الروائية في أعمال الصويم هي سمة بارزة لا تكتفي بالاستقلال كهوية نابضة بالحياة، بل تحيل مشاهدتها بالممارسة الكاملة للدور الإنساني دون إضفاء أو إسقاط لرؤى مسبقة التشكّل أو دافع أخلاقي مرغوب في تبنيه أو مبدأ يتطلب تضحية بالنصّ استجابة لنزعة أيديولوجية. قراءات الصويم تركز على الشخصية وتنفذ إلى دورها ومصيرها أياً يكن المصدر الذي تنطلق منه بدءاً من الغريزة الفطرية إلى التحقق على صحفات التاريخ، وهكذا شدته شخصيات (قلقة) عالجتها كتابات سياسية، كالسادات في خريف غضب محمد حسنين هيكل، أو جعفر النميري لدى منصور خالد، أو مذكرات هنري كسنجر، وهي كتابات شكلت في مجملها جزءا من قراءاته لمجرى التاريخ وقدر الأفراد في صباه الباكر. فـ(آخر السلاطين) ربما كان من الخيارات التي ستنجزها الرؤية والخبرة السابقتان في مجال يجيد الإمساك بخيوطه وفق رؤية بصرية نافذة ومبدعة.
إنّ عناوين أعمال الصويم الروائية هي بداية مواجهة الشخصية في محدداتها الاجتماعية وأبعادها السلوكية، إلا أن العنوان إشارة مباشرة، وأحيانا ضمنية؛ إلى مضمون النصَّ، وما تحيل إليه علاماته - العنوان - كمدخل لمقاربة قوة النص في التتابع المتصل لتطور الأحداث والشخوص، وهو ما عرف بالبناء المتماسك في أعماله، وخاصة في رواية (ذاكرة شرير). بادرت الشخصية بالظهور في مداخل العناوين بالوجود المنطقي، وإن لم تدل – بالضرورة – على ثنائية الفكر والوعي، كمتلازمة لتعريف الشخصية في واقعها الطبيعي وحاجتها إلى الوجود كخلفية تاريخية لتطور الشخصية في واقع الحياة، أو في النصوص، ولا يعني بحال تقديم شخصية روائية غير مدركة أو مسطحة بالمفهوم النقدي لنماذج الشخصيات الروائية، ولكن هناك دائما حالة شخصية Personality تتخذ من العنوان واجهة للتجلي، فـ(ذاكرة شرير) و(أشباح فرنساوي) و(آخر السلاطين) دلالات مترادفة للشخصية أو علامات لفظية تدُلّ على طور الشخصية في الذاكرة والظهور متعدد الأوجه في الأشباح، أو فرد في التاريخ كآخر السلاطين. فالشخصية الروائية هي ما يمنح النصّ بنيته، ويوسع من دائرة حضوره كنص ناطق بالأصالة عن إبداع الكاتب.
(ذاكرة شرير)؛ النصَّ الروائي الأبرز (حاز على جائزة الطيب صالح للرواية 2005م) للصويم، وهو برأي الناقدة الدكتورة لنا عبد الرحمن قد كتب من العتمة. والعتمة هنا مكان ينتمي إلى بؤر اجتماعيِّة أدرجت كشريحة تحتمل صفات وسمّات بشرية من نوعٍ آخر. دفع بنا نص الرواية عبر شخوصها وأقبيتها المكانيِّة إلى مواجهة خياري الانحياز والحياد، فالنصوص الأخرى التي عالجت هذا الواقع عرضت شخوصها عبر مسارات السرد إلى استجداء التعاطف والرثاء، مما أضرّ بالقيمة الفنية للعمل، لتقسيمه إلى وحدات مصفوفة لكل شخصية على حدة. فشخصية آدم كسحي تعلو على الوصف الفيزيقي للجسد العاجز الكسيح، إلى الرغبة في الانطلاق وإرادة التمسك بحق الحياة. هنا تقف الشخصيّة شاخصة معبرة عن المكان بمحدوديته كمثلث الأسمنت أو مجاري المدينة التي اتخذتها تلك الفئة بيوتاً. استطاع الصويم عبر الذاكرة رسم الشخصية وتفعيل المكان، وهو ما يفيد في الكشف عن خبايا الذاكرة التاريخية لشخصية آخر السلاطين.
في رواية (تخوم الرماد) أول أعمال الصويم الروائية؛ يمكن رصد ملامح خاطفة لما تكون عليه رواية (آخر السلاطين). يدعم هذا الاتجاه - بغير قصد - التماثل المكاني والدلالات، أو المحيط الدلالي؛ بالتعبير السيميولوجي لمجرى الأحداث. ففي التخوم تصاعد السرد عبر صوت الراوي إلى ما احتوته بيئة المكان من رموز محلية كثيفة جَلَت البعد الأنثروبولوجي في واقعه المحلي. فالشخصيات هنا لا تنفصل عن بيئة أو طبيعة المكان إلى درجة لا تحتمل التجريد، بل تمثل دعوة إلى التطابق بين مشتركات عدة من بينها الدلالات اللغوية والمحيط الاجتماعي للتداول اللفظي للّغة المحكيّة للشخوص الروائية، وإن يكن الراوي قد اقتصد إلى حد التقشف في استعمال اللغة المحلية - ربما لقوة دفع اللغة الشعرية المستخدمة في السرد، التي لم تحتمل كسر اللغة على ألسن شخصيات بدت ملتصقة بواقعها المعزول، إلا عند الحاجة إلى التعبير. وهنا تبرز تجربة الكاتب وأدواته وملاحظاته الأولية في التجريب وإعادة تمثّل صور الواقع. وسيفرض المكان تحديه على (آخر السلاطين) بصورة يصعب تجنبها، من جهة تركيبة الواقع ومكوناته المتداخلة مع السمة الشخصية للشخوص الروائية والشخصية الجغرافية للمكان. تمّ توظيف المكان في التخوم، لا بوصفه مجالاً محدوداً لا يمتد خارج نشاط الشخوص؛ بل كصورة أيكولوجية متخمة بالمناخات المختلفة التي ساعدت في قراءة التفاعل الجدلي بين الطبيعة والإنسان في صيغة الفعل الوجودي. فعلامات المكان هناك (موقع التخوم) ليست رؤية فنية متخيلة أو علامات لفظية دالة على صورة ذهنية مجردة؛ فقد تناثرت مكونات البيئة الطبيعة والبشرية وأسماء الأشياء والناس، لتشكل رؤيتين: واحدة جمالية، وأخرى واقعية، امتزجتا بالغرابة وسحريَّة النصّ، وهو ما عبرت عنه الكاتبة الأميركية كرستي كروغر، بأن رواية التخوم - من واقع النظرة والمفاهيم الغربية للصور غير الغربية - مدهشة ومثيرة Fascinating فغرابتها ليست على طريقة الواقعية السِّحرية، بل في أنها حياة لأشخاص بدت مثيرة في سياق آخر. وهي المحاولة التي حاول فيها الصويم اختبار أماكن وواقع لم يجرّبا فنياً من قبل، وإن ظلت مواقع وأسماء ترتبط بسقف محدود يستعصي على الإفصاح. نجد غابات بقس، وأشجار أم الليون، وطيور الفري، وقرى العشوش، وأم عضام، ووادي برلي، وشخصية السلطان، وفرقان عرب رحَّل، ورجالات دولة، وتجارا، وقرويين، ولصوصا، وقد زاحمت النصّ إلى درجة ضاق بها حجم الرواية. ويتضح أن المكان وموقعه في النص الروائي وحضور الشخصية الروائية؛ لا يمتلكان سطوة الظهور إلا بقدرة الكاتب في استخدام مفاهيمه المعرفية ورؤاه الفكرية والفلسفية، أي جملة موقفه الوجودي من الكون.
أشرنا إلى ظلال التخوم - أو بمعنى أدق المكان حيث جرت أحداث رواية (تخوم الرماد) - على رواية (آخر السلاطين)، وهو ما يمكن أن يعبَّر عنه بفضاء السرد. ولكن المكان لن يكون استعادة للوصف الطبوغرافي لمنطقة بعينها، ففي (آخر السلاطين) يضاف البعد الزمني للمكان كحقيقة ماثلة بانتظار المعالجة الفنية وفق تصور السّارد. فالحاجة إلى التأويل ستزداد لفهم الأحداث التي لازمت شخصية السلطان (صعودا وهبوطا). في رواية (تخوم الرماد) تمكن الراوئي، على خلفيات معطيات شكلها فضاء السرد؛ من التنبؤ بدرجة عالية من الاستبصار، بمقدم الكارثة. تلك الميزة التي أبرزت مدى استيعاب الروائي لمعطيات الواقع، ورؤية ما يقع في مستقبل الأحداث، فحدس الكاتب لا يعين بمفرده على تخطي الزمان والمكان.

ليست هناك تعليقات

كافة الحقوق محفوظةلـ مدونة منصور الصويم 2016 | تصميم : رضا العبادي