-->

الجمعة، 8 ديسمبر 2017

جثة تتكئ على عمود - منصور الصُويّم

جثة تتكئ على عمود
منصور الصُويّم

اليوم الأول
في الموعد المحدد كل يوم، بعد سماع الأذان ينادي لصلاة الفجر، خرج الشيوخ الأربعة من منازلهم، ليلتقوا وفي توقيت محدد عند عمود الكهرباء الذي يليه بعد شارع ضيق المسجد الصغير. في هذا اليوم حدث شيء زلزل الأصدقاء الأربعة، فعند اقترابهم المتزامن من عمود الكهرباء وقبل أن يبدأوا بتفقد الأحوال، أبصروا رجلا جالسا على الأرض مستندا بظهره على العمود وقدماه ممدوتان أمامه ورأسه متكية على صدره. اقتربوا منه وجلين، كان مرتديا حلة رسمية سوداء برباط عنق، وحذاء أسود لامع، رجل في كامل أناقته ووجاهته لا تبدو عليه آثار سكر أو عنف، لكنه ساكن وخامد. حين قال أحدهم وهو مختص الحي في غسل وتكفين الجنائز، إن الرجل "ميت"، جفل الثلاثة الباقون وتراجعوا إلى الوراء. ها هي جثة رجل يبدو مهما تفاجأهم في فجر هذا اليوم وتؤخرهم عن الصلاة. في أقل من عشر دقائق تحلق حول الجثة عدد من الشيوخ والشباب والأطفال ممن كانوا في طريقهم إلى المسجد. أحد الشباب انحنى على الجثة وفتش جيوب الرجل، وجد محفظة وبداخلها بطاقة هوية ممحوة الكلمات تماما، بحيث لم يظهر منها شيء سوى وجه الرجل الميت، عثر الشاب أيضا على عدد من الأوراق المطوية بعناية، فردها وقرأ من الورقة الأولى تحت ضوء عمود الكهرباء وبصوت مرتفع حتى يسمعه الجميع: "محضر الاجتماع الأول". بقية الأوراق كانت بيضاء. بعد نصف ساعة أخرى حضرت الشرطة وأبعد رجالها المتجمهرين حول الجثة. استجوب الشيوخ الأربعة نهار وعصر ذلك اليوم حول ما جرى ثم تركوا في حال سبيلهم.
اليوم الثاني
في الموعد المحدد عند كل يوم، بعد سماع أذان الفجر، خرج الشيوخ الأربعة كل من منزله. اليوم يختلف عن الأيام السابقة، فهم مرهقون ولا زالوا مصدومين جراء أحداث الأمس، العثور على الجثة وتحقيق الشرطة، وجموع الزائرين الفضوليين التي لم تنقطع حتى وقت متأخر من الليل. لكنها صلاة الفجر، موعد اللقاء وساعة الصفاء والتفاكر الصباحي. أصيب الأصدقاء الأربعة بالذهول وهم يقتربون من عمود الكهرباء، كان هناك رجل متكئ على العمود وقدماه ممدتان أمامه. أصيبوا بالرعب تماما حين اقتربوا أكثر، من الجهة الآخرى للعمود رجل آخر متكئ بجسده ورأسه مرمية على صدره. قال الشيخ المختص بالجنازات: ميتان. حضر بقية المصلين. أخرج الشاب من جيبي الميتين محفظتين وبطاقتي هوية مطموستي الكلمات، وجد رزم أوراق مكتوب في الأولى لدى كل واحد منهما: أجندة الاجتماع. أما بقية الأوراق فخالية من الكلمات. حضرت الشرطة. استجوب الشيوخ الأربعة لوقت متأخر من الليل ثم أطلق سراحهم بالضمان الشخصي.
اليوم الثالث
في الموعد المحدد، بعد سماع المنادي لصلاة الفجر، خرج الشيوخ الأربعة. كانوا منهكين ووجلين، لكنهم أصروا على الخروج لأداء الصلاة. حين اقترابهم من نقطة التلاقي لمحوا رجل شرطة بزيه الرسمي يحمل "سلاح رشاش" بين يديه. اطمئنوا، ومضوا نحوه فرحين. الشرطي حين لمحهم ابتعد خطوات عن العمود حتى يتسنى له استقبالهم. في اللحظة التي رسم فيها الشرطي ابتسامة ترحيب كبيرة على وجهه، علت وجوه الشيوخ الأربعة إمارات فزع بينة، فالتفت وجلا. عند العمود كان هناك رجل يتكئ بجسده عليه ورجلاه ممدوتان، وعن شماله كان هناك رجل آخر يمدد قدميه أمامه ورأسه مرمية على صدره، وعن يمينه كانت هناك امرأة عارية، قدماها ممدتان أمامها، وشعرها مسدل على صدرها، ومن ورائه كانت هناك امرأة أخرى عارية، قدماها ممدتان أمامها، وشعرها مسدل على صدرها. قال الشيخ مختص الجنازات: أربعة أموات اليوم، أربعة جثث، أربعة بطاقات مموهة، واجتماعات لن تعقد أبدا.
اليوم الرابع
في اليوم الرابع، اتفق الشيوخ الأربعة على الخروج في موعدهم رغم تحذير الشرطة التي طوقت الحي بأكمله، وبتركيز خاص حول منطقة عمود الكهرباء والشارع الذي يليه. أذن الأذان مناديا لصلاة الفجر، فخرج الشيوخ الأربعة في الموعد المضروب. حين اقتربوا من نقطة التلاقي اليومي عند العمود أبصروا مجموعة كبيرة من رجال الشرطة وبرفقتهم كلاب بوليسية وسيارات دفع رباعي وعدد مهول من الأسلحة النارية. تحركوا قلقين. استقبلهم ضابط عظيم كان يتكئ بجسده على عمود الكهرباء وبيده سيجارة مشتعلة. صافحوه وحيوا الشرطة ومجهوداتها. الشيخ مختص الجنائر قال: أشم رائحة الموت! رفع رأسه إلى أعلى وشهق فزعا. شخصت الأبصار نحو مرأى الشيخ فشاهدوا أكثر من ثمانية جثث مشبكة بالأسلاك ومثبتة أعلى عمود الكهرباء.
اليوم الخامس
في فجر هذا اليوم لم يتمكن الشيوخ الأربعة من الخروج بعد سماعهم نداء الصلاة. كانوا ينصتون من داخل بيوتهم إلى أصوات محركات سيارات الشرطة والجيش والأمن وهي تجوب شوارع وأزقة الحي. منع جميع السكان من الخروج عند الفجر. الشيخ مختص الجنائز بحاسة شمه المتدربة جيدا كان يدرك أن الموت يخيم على المكان. لابد أن عدد الجثث تجاوز العشرات، فالرائحة خانقة وثقيلة، لم تخف حدتها مع بزوغ شعاع الشمس. عند صلاة الظهر والأصدقاء الأربعة يجتمعون في المسجد، وردتهم الأخبار بعد أن سربها أحد جنود حملة الفجر: عند كل عمود كهرباء عثر على ما يقارب العشرين جثة لرجال ببذات كاملة ونساء عاريات، بعضهم على الأرض يسند جسده على أعمدة الكهرباء وبعضهم معلق في الهواء ومشبك بالأسلاك. مئات الجثامين حملت على شاحنات الجيش هذا الصباح.
اليوم السادس
في اليوم السادس ومع انطلاق صوت الأذان مناديا للصلاة، علت آلاف الصرخات منطلقة من جميع بيوت الحي. الشيوخ الأربعة، كل من موقعه، أبصر فردا من أفراد أسرته تسحبه قوة ما بغتة إلى الأعلى ثم تقذف به مثل شهاب صوب المجهول. الشيخ مختص الجنازات أزكمت أنفه رائحة الموت المنتشرة في الفضاء. علا صراخه: الجثامين، الحنوط. لكن صوته ضاع وسط صراخ وعويل سكان الحي المتزايد.
اليوم السابع
في هذا اليوم سمع الشيوخ الأربعة، صوت الأذان وكأنه يجيئهم من بطن بئر غائر. كانوا يحسون بالأشياء ولا يحسونها. يدركون بشكل مبهم أنهم جلوس على الأرض. ويعون بشكل غامض أن أجسادهم تأخذ شكلا أقرب إلى الصليب وإنهم بصورة ما يتكئون جميعا على جسم صلب أقرب إلى الإسمنت.

ليست هناك تعليقات

كافة الحقوق محفوظةلـ مدونة منصور الصويم 2016 | تصميم : رضا العبادي