-->

السبت، 19 يوليو 2014

تناص النقد والترجمة والايقاع السردي في رِوايَة تُخُوم الرَّماد - ناصر السيد











التناص المفهوم والمصطلح

تعدد قراءات النصَّ الإبداعي وتحليله، اتجاه يمُكن تفسيره بقدرة النصّ التي تُمكن من رؤيته واختباره بين نصوص أخرى ومدى استجابته الإبداعية التطبيق النقد المنهجي ونظرياته في القراءة التحليليِّة متى ما تناولنا المنتج الإبداعي كنصّ جمالي النص الروائي أو ترَّحلت مفرداته اللغوية إلى لغة أخرى ترجمة النصَّ أو أعيدت قراءته تقييمياً النقد .

لقد أدرج التناص كمفهوم ومصطلح في الفكر النقدي ضمن قراءات النصوص المتداخلة في عملية التفاعل النصي لتنتج نصاً يحتمل المقارنة ولا يكتفي بتشكيل البنى المورفولوجية الشكلية للأشكال السردية تفاعلاً مع نصوص بالإمكان تفكيك بنية خطابها من حيث المقاربة التناصيِّة. ولم يعثر على التناص في نظم القراءات التُراثيِّة العربية كمصطلح ومفهوم، كما تعرّفه الدراسات الأدبية كمصطلح مستحدث. قد يكون المقابل له ظاهرياً كما يجادل النقاد العرب ما عرف قديماً بالسرقات الأدبية والاقتباسات؛ إلا أنه اتخذ في اللغة العربية موقعه حديثاً عبر ترجمته عن أصله الفرنسي Intertexte” ليستقر على ما ظلِّ مألوفاً في المعجمية العربية النقدية بالتَّنَاص. وهكذا تمَّ التعامل والتداول في حقل الدراسات النقدية به كمنظومة آلية تُعنى بتحليل مضامين النصَّ كخطاب حمال لطبقة من النصوص وطبق دراسة لتحليل عدد من الروايات العربية. ولكن كيف يتداخل التَّنَاص مع الترجمة دون أن يفقد وجوده المنطقي داخل النص الواحد؟ إنَّ الترجمة لا تنقل النصَّ مجرداً عن ما يحيط ويعلق به من مكوناته اللغوية والثقافية. فالمحاولة ليست جرّا للمفاهيم وتطبيقها على نصَّ روائي قد لا تتسع طاقته النصيِّة لاستيعاب قدرة المفاهيم النقدية، وتطبيق عملي لترجمته إلى لغة أخرى وفق محددات لغُويِّة تنطوي على اختلاف الأنساق الثقافية المعبرة عنها في لغة النَّص الروائي على المستوى الدلالي؛ ولكن إخضاعاً لنص روائي ومحاولة قراءته وفق المعطي المختار من حركة بين النصوص سابقة عليه بالمفهوم التناصي.

النصّ السردي رواية تخوم الرماد

النصَّ المُستهدف بالدراسة متعيناً ترجمةً وتنَّاصاً رواية تخُوم الرَّماد للروائي منصور الصويم، صدرت نسختها العربية الأولى في 2001م ومن ثًّم نُفذت ترجمتها الى اللغة الإنكليزية 2013م. لتُكِّون نصاً يتعين في التَّنَاص والترجمة معاً ويستدعي بالتالي الوجود المنطقي في التَّنَاص لتتاح القراءة التَّنَاصيِّة بين نصوص عدة تُكمِل عملية التَّنَاص وتقود إلى التأويل وفق قراءات تناصية تحتمل تداخل النصوص تقنيات الرواية ونصوص أخرى مُعقدة التداخل في موقع مجريات أحداث السّرد في الزمان والمكان. أما التداخل بيَّن اللغة التي كُتبت بها الرواية لغة المصدر واللغة المنقول إليها عبر الترجمة حيث يتبدى اتصال اللغة بأفق الأدب، مع مراعاة مقتضيات الترجمة أدوات الترجمة التحوّل اللغوي للمفردات والصياغات بين اللغتين فيمكن تجسيره عبر المفهوم السيميائي العلامة في بعدها الكونيِّ المشترك بّين اللغات. على الرغم من صعوبة مقاربة منهج الدراسات اللغويِّة، وتفسِّيره عندما يُترجم نص روائي، لأنه ينعزل آلياً عن القواعد الإرشادية للترجمة؛ مكتفياً بتحليل الخطاب الروائي في علاماته السردية ومرموزاته الدالة على العناصر المختبئة من وراء النصوص. فيتم النظر إلى النصَّ الروائي كممارسة سيميائية تعمل على أصوات لغات محكيِّة عدة لها قابلية القراءة Readable على متن السرد.

رواية تخُوم الرَّماد عكست إلى جانب المكونات التقنيّة للعمل الروائي، مستهل تجربة الكاتب مجرباً أدواته في السرد لتقحم الفضاء السردي بما هو بنية مشروع الخطاب الروائي؛ والمحيط التخيلي بالقدر الذي مكنت منه أدواته في التجريب. ففي مفتتح الرواية نقابل وصفاً بصوت الراوي لمدينة بدت مأهولة بالتوترات الوصفيّة رسماً لشخصيتها كمكان يأخذ حيزه في بنيّة السرد. تقترن تجربة الكاتب الروائي كاستهلال لتقديم رؤية لعالم تبدو معالمه غامضة بعيداً عن واقعه المحسوس من حوله. ومع ذلك تشتدّ الضرورة المنطقية للتعامل مع نمط كتابي سردي بأشكال معطيات واقعة الحضور؛ أي مقدمة منطقية في سياق متنافر المعطيات أمام تجربة وليدة قد تسندها ذاكرة تراكم عليها وعي شعري يتسم بالانفعال الذي تحدثه الرغبة الجامحة في تطويع ما قد يراه من محاولة للمقارنة مع نصوص متشكلة في نصوص سردية بالغة الأثر في تجربة الكاتب الأولية. إنّ التأمل الأولى في مدى استجابة أدوات الكاتب المُجربة في تخُوم الرَّماد يفضي إلى البحث عن التصورات الجمالية والمجازية في بنائها السردي، واللغة التي وظفت لإنجاز المهمة سردياً. فاللغة التي حاول بها الروائي إضفاء سمات وصفية عبر رموز مفككة من منظور التجربة النصيّة لتبرز حيزاً مكانياً توحي دلالته الرمزية وتنأى به في الوقت نفسه منفصلاً عن تجربة الروائي الذّاتية كموضوع مستقل. اللغة الواصفة هنا حُملت بنسق شعري يُجلي مفرداتها ونظمها التدفق السردي كما لو أنها محاولة لسّد الفراغات التي تنتج عن محاولات التجربة الروائية لتدعيم البناء السردي حتَّى لا تقوضه التجربة التي يعوزها الحذق على الأقل في هذه المرحلة؛ وعادة ما لا تخلو مما يحسه الكاتب المجُرب في عالمه المادي وما يدركه من دلالات تتفاوت في درجة اقترابها من مستوى تجربة الكاتب وبما أن الوصف هنا Depiction” تلزمه دقة الموصوف لتجعل منه موضوعاً مستحضراً قابلاً للتمثل والتصور الدلالي. ويتواصل هذا الوصف في أكثر من مقطع في زمن الرواية في محاولة من الراوي لتثبيت صوراً تتطابق مع مكونات المكان والشخوص الروائية. فالوصف السردي ينقل عن طريق وسيط لغُوي لغة الرواية تنبثق عنه دلالات سردية واستعارات لغوية محملة بشعرية مكثفة للتأثير والسيطرة على مسار تطور الحدث السرد الروائي. ومع التركيز على الوصف المكاني عناصر المكان وإحالة المفردة اللغوية إلى علامة تأويلية تجعل من الوصف تشريحاً إلى الحدَّ الذي ترتبط فيه بعلامات دلالية مجازية مضمرة عن سطوة السلطة والفساد والطغيان.

إنَّ الـرؤى، أي الصور السردية من خلال تعدد وتداخل صوتي الراوي والسجين عددّت بدورها من مستويات اللغة المستخدمة في السرد، إلا إنها لا تكوّن خصوصية تسِم مستوى اللغة ليستمر التوتر الزمني في الرواية، فصوت الراوي الفعل المركزي تتناقص هيمنته في الأدوار القصيرة اللاحقة، إذْ أن السرد المتصل لأحداث الرواية مع ضيق مساحة السّرد ظلت عوالمها تنفتح على علاقات متشعبة بما قدمته مكونات السرد من صور ومشاهد غير مألوفة لا يفسرها العالم الفنتازي الذي حاول الراوي تقديمه وإن استمرت الإحالة إلى البنية الأنثروبولوجية لمكان أحداث الرواية وما يدور فيه من صراع إنساني.

الإيقاع السردي الزمن

في رواية تُخُوم الرَّماد يتصل السّرد بوتيرة زمنيّة واحدة عبر صوتي الراوي وشخصية السجين، ولا يتوقف من خلال فصول تُقسم تقليدياً الزمن السردي وفق الإطار البنائي للرواية. فباختلاف أحداث الرواية وظهور أصوات شخوصها، لا تخلو من مفارقات في التنقل بين الأحداث والأماكن التي تشكلت عليها ملامح العمل وانصهرت فيها؛ فإن كانت المواجهة السردية في الرواية تبدأ بالمدينة وأزماتها المتداعية على لسان الراوي، فإن القرى والواحات والأحياء الطرفية للمدينة تقع بوصفها الطبوغرافي في جغرافيا المكان كعلامات لها مدلولات سردية. بعض المشاهدات في الرواية يتخطاها الزمن بوقوعها في زمني الحاضر والمستقبل معاً مع الحيطة في تركيز تداعي الأحداث تمشياً مع منظومة السرد. فالراوي يغيب ثُم يعود للظهور عبر حوار داخلي باثاً شكواه وتذمره من واقع بدا عاجزاً عن رؤية منافذه أو مقدماً حلاً لأزماته. وتتشكل صورة من اختراق حدود المعقول والمنطقي، ذلك الاختراق الذي يجعل من الخطاب الروائي خطاباً تتعدد مسارات قراءاته.

الاسترجاع

يعود الراوي إلى المدينة عودة مفاجئة وانتقال خاطف عبر تقنية الاسترجاع Flashback لتوضع أمامنا صورة لمدينة غير تلك التي تشخص بوصفها دون تدخل فاعلٍ من الراوي تاركاً تطور الحدث الروائي يكوّن مكاناً متحولاً في زمن الرواية ضمن شبكة العلاقات السوسيولجية لهذه المدينة المسترجعة. وللراوي هدف مضمر حيال مدينته المعاد اكتشافها من خلال المباني الأنيقة والتطور العمراني الذي تناثر على فضائها ترسم ملامح واقع جديد آخذ في التشكُّل، في تزامن مع عناصرها السيوسولجية ومكوناتها الطبقية التي تكسي المدينة بعداً ديمغرافياً يوظفه الراوي إكمالاً لمهمته التي عاد من أجلها إلى المدينة ليؤسس مملكته الخاصة. استرجاع المدنية كمكان بالوصف والوجود في السرّد؛ فجرّ السرد علامة المكان وتكونت مدينتان منفصلتان مواجهتين بالتصوير السردي للمكان لينتهي إلى فضاء وصفي. فإذا حُلِّل المكان بين نصه الجغرافي وفضاءه الدلالي نعثر على حالة من التناص غير مستقرة في تتابعه وتحولاته السردية، فعلى الرغم من سطوة المكان وتعدده مواقعه الجغرافية مدينة، ريف، واحات والنصيِّة وجود الراوي، الشخوص ؛ إلا أنه لا يفرض سيطرة محسوسة على أحداث الرواية ويختفي أثره بفعل المتابعة المترحلة في سياق الأحداث. وتظل العناصر المتصارعة في منظومة السّرد كما في الراوي وشخوصه السجين وشخصية سليم أمبدي .

تقنية الحوار الوسيط اللغوي

يعتبر الحوار في رواية تخُوم الرَّماد من بين العناصر المتضافرة المدعومة بقوة التداعي السردي، باعتباره أداة لا غني عنها لإضفاء الحيوية على العمل الإبداعي. ثمة حوارات متعددة الأصوات عمقت من قيمة السرد، حيث جاءت المقاطع الحوارية حاسمة خاصة أن هناك حالة سردية لا يمكن للتداعي السردي إبرازها إلا من خلال الحوار، فكان الحوار صوتاً متصل التردد في الإيقاع الزمني والتكويني للرواية. ولم يكن الحوار إجراءً يلزم وجوده وجود الأحداث في سياق السرد الروائي، بل تحقيق وإيحاء بصورة أفكار بصوت الراوي بضمير المتكلم الصوت المركزي المتداخل مع حوارات عدة متناوبة الظهور يعمد من خلالها لاستيعاب مختلف الأساليب في تقنية وتنفيذ السرد، فالقصة السردية للرواية في كل مشهد يتخللها حوار لا يكاد يذوى بعيداً عن لغة السرد وينهض على ثبات مطابقاً لأجواء السرد نفسه. استنطقت عبر الحوار شخوص الرواية وعناصرها المكانية بلغة الرواية الفصحى ، مع وجود حوارات باللهجة المحلية لها دواعيها الواقعية مع لغة الشخصية الروائية المُتكلمة بها، وشعورها النفسي وبالتالي وعيها الوجودي. فحوار الراوي مع نفسه مونولوج والسجين وخديجة…إلخ، يجعل من الحوار استدلالات على تطور الحدث السردي ومدى فاعليته في إيضاح الرؤية الشخصية لكل من الراوي وشخوصه.

الشخوص الروائية العلامات

أزاحت الرواية الغطاء عن شرائح اجتماعية متنحية عبر مغامرات الراوي في حواري المدينة وقاعها المجتمعي المأهول بعناصر مهمشة بائعات الشاي، فتيات الليل يحتويها واقع قلما يبادر بالاقتراب منها وإن مارس مسكوت علاقاته معه. فوضعية المرأة في واقع متخلف قد قدمه الراوي كما ينبغي مقروءاً مع واقعية ثابتة كما لو أن في ثبات المعطيات الواقعية حفاظاً لثيمة السرد. لقد أضاف الراوي بمغامراته الحسيِّة في مخادع تجربة إنسانية تكرر وصفها سردياً على الرغم من أن التفصيل في نقل الحدث هنا لا يحمل القارئ على الاستثارة المفضية إلى نهاية مُحتملة التوقع، وإمكان العثور من خلال هذه المغامرات على نصوص غير متكلمة nspeakable” تضمر تنّاصاً بين الخطاب الروائي وواقع الدلالات الاجتماعيّة. تحسس الرواية لهذه الفئات المهمشة بالموقع الاجتماعي، وتفسيرها ضمن محددات الحراك السياسي علامة سردية أخرى تنطوي على قراءة تكميلية في دائرة تهميش أوسع تنفعل به السياقات السياسية والاجتماعية وتتخذه الثقافات المحلية خطاباً مزدوجاً بين القبول والرفض والاستحقاق. وهو ما استقر في سجال الخطاب الثقافي بمعادلة المركز»الهامش كطرفين في علاقة لا يُخفى توترها المتصاعد. ترد العاصمة المركز على متن السرد الروائي كمصدر قوة وقرار يلجأ إليه الراوي لإعادة التعيين والدعم والتمويل إلى آخر منظومة السلطات السياسية والإدارية التي يفرضها المركز على الهامش. فوجود هذه الفئات وظهور المستعاد في شخوص الرواية ضمن عناصر السرد غير المُفعلة لا يحيلها إلى تعبيرات وأوصاف مطلقة على طبقات متماثلة الهوية من حيث المعيار الوصفي الاجتماعي؛ وإن لم يتوغل السرد في تفاصيل حياتهم اليومية بوصفها هويات سردية. ولكن جعل من وجودهم المكاني وما يمارسونه من مهن علامات دالة على وجودهم الطباقي على واقع بنية الرواية المكاني كرعاة وبائعات شاي وعاهرات ومن ثّم حكاماً وسلاطين تصدرهم وتدعم وجودهم السلطوي العاصمة المركز وهو المشهد الواقعي الذي تثيره معادلة المركز» الهامش. ثمة نصوص روائية التي حاولت فضح جدلية المركز»الهامش وما انطوت عليه من نزعة استعلائية مهيمنة من قبل المركز، فكتابات أبكر آدم إسماعيل وعبد العزيز بركة ساكن انطلقت من مركزية الهامش لتقديم خطابها السردي إلا أن حدة المباشرة في نقل الواقع جمالياً سردياً ألجأت بعض النصوص إلى تمثل خطاب الهامش السياسي الدارج الذي برز كحالة عنف متجلية في حروب مناطق الهامش كردفان ودارفور. وتشترك جميع هذه الكتابات في الانطلاق من بنية جغرافية الهامش وشخوصه في مواجهة تحكم المركز.

الترجمة والتناص تحليل الخطاب اللغوي

اقتصدت الترجمة في محاولة نقلها لهذه المكونات وعناصرها السردية إلى اللغة الإنكليزية لإيجاد دلالات ليست بالضرورة متطابقة المفردات والألفاظ في نسقها الثقافي ومحيطها اللغوي في كل من اللغتين، تجنباً للأخذ بالمفردات المعجمية التي غالباً ما يتصورها المترجم. ولكن تظل دلالة المفاهيم في الخطاب الروائي الأقرب إلى النقل والتَّفسير بين اللغتين، فالسرد الروائي لا يتعارض ـ وإن يكن يتَّنَاص ـ مع مبادئ مستقرة مسنودة بتصور قبلي أيديولوجي نمطي تشكل أصولاً ثقافية قد لا تعادلها نظائر في ثقافة مغايرة اللغة المنقول إليها ومن ثم تنتهي الترجمة إلى حزمة من الاشتقاقات اللغوية للمفردات تقصر عن إجلاء الرموز اللغوية ودلالاتها النسقية. فمثلاً، يتحول الظلام في مفتتح رواية تخُوم الرَّماد بصوت الراوي في المدينة إلى أكثر من علامة خلافاً لطبيعته الفيزيائية الظلامُ لي أدور فيه، أمزِّقه، أهشِّمه وأجعله شظايا ثم أرتقه وأعيد الترتيبَ فيه، ظلام المدينة، جهاتها الأربع، ينتظر الرجال، ينتظرون من سيأتي. أنا سيد المدينة، سيد الرجال، سيد الظلام والأوهام… . يشير هذا المقطع إلى منظومة نثرية تنضبط مفرداتها بإيقاع شعري، فإذا ما نقل إلى اللغة المستهدفة بالترجمة يتحول إلى مقطع معادة الصياغة تُعالج فيه ضمائر الملكية وتصرف الأفعال بما يقتضي البنية القاعدية في اللغة الإنكليزية ولكن دون أن يفقد حسه الشعري ودلالاته اللغوية والرمزية معاً The darkness is mine. I gather it up, smashing, tearing and tossing it about. Then I rearrange the pieces in a new pattern and stitch it all together again. All four corners of the city have been waiting for the men. I am the master of the darkness, the city, the men and the fantasies”.

و لما كان النصّ السّردي في الرواية، وأي خطاب سردي آخر يشتمل على نصوص وألفاظ وصفات توحي بالاختصاص الدلالي واللفظي ولا سبيل إلى نقلها كما أرادها ]مؤلفها[ وهو جدل متجذر في البنية التاريخية للترجمة بين استحالة وإمكانية الترجمة بين أكثر من لسان كما الشأن في التُّراث العربي وخاصة الشعر منه. ففي رواية تخُوم الرَّماد لم تغْب مكونات الثقافة المحليّة الفلكلورية في المحمولات الثقافة أو الإنتاج المادي لتلك الثقافة. كان للترجمة هنا ألا تكتفي بالمقابلة اللغوية أو النحّت اللغوي وهو غير الصفات المترادفة لتقريب المعني في لغة لا تتوفر على مسميات دقيقة لاستخدام عناصر خارج نسقها المادي. الترجمة هنا تتحول إلى تنَّاص لغوي بالقياس المقُارن يتنقل بين أكثر من مستوى نصي من حيث السرد لتحليل العناصر والمفردات ذَّات الصبغة المحلية تدنو من الأنثرولوجيا اللغوية Linguistic anthropology” أو بتعبير أكثر دقة لسانية جغرافية Geolinguistic” بالمفهوم الألسني للدراسات اللغوية لسانية يؤطرها الوضع الاجتماعي للمتكلمين بها. إلى جانب أنَّ الترجمة في مسعاها التكميلي لانتزاع عمق المعني تحتاج إلى إضافة صفات إلى التجسيدات والمسميات. فمثلاً آلة السجين الصوت الثاني ذات الوتر الواحد التي وردت باسمها المحلي أُمْ كِيْكِي كمنتج مادي للثقافة المعنية، فإن مقابلها لا تتوفر عليه الترجمة إلا بمقابلة مع آلة الربابة العربية والآلة الوترية في اللغة الإنكليزية Lute” مقابل العود في العربية الفصحى. تحتاج الترجمة هنا إلى النقل الصوتي transliteration” للمفردة التي تتماثل صفتها الأدائية بين لغات عدة. إذن المعالجة اللغوية تنتهي إلى حذاقة الترجمة في الإيفاء بالمعنى وصفته اللغوية حتَّى يقع ضمن السرد. وكذلك الأمر ينطبق على سائر العناصر المتفاعلة مع تطور الحدث السردي بقوة في المحيط الحيوي للأحداث. ولكن يستعصي على النصّ اللغوي مجرداً أن يصيغ نصاً روائياً دون العناصر المؤسسة والمتحاورة في وجودها الجدلي مع المكان والزمان في البناء السردي. وعليه حفلت تُخُوم الرَّماد بصور ورموز هذا الجدل.

قراءة تحليل الشخصيّة

من خلال سجالات الراوي مع السجين ضمير المخاطب الغائب يحاول الراوي تقديم بُعد نفسي مبرر لشخصية السجين كشخصية مُنتزعة من مصيرها الذي آلت إليه من خلال قصره المكان ومستودعاته المليئة بغريب التُّحف وأغاني موسيقية منسية يحاول استدعاءها في عزلته القسريِّة. الحالة النفسيِّة لهذه الشخصية علامات متفرقة أجلت خبايا الشخصية الروائية باستخدام محتويات المكان كموضوعات محايثة دالة محللة للأبعاد النفسية. هذا التداخل بين مكونات المكان أوجد الصوت الروائي الغائب ضمن محيطه الحيوي. وساعدت هذه العناصر في الكشف عن حالات الهذيان والصراع بداخل هذه الشخصية. فإذا لم يكن التحليل السيكولوجي مستهدفاً في الخطاب الروائي، وإن يكن يشكل محوراً لأهم عناصر الخطاب الروائي الشخصية . فسمات البُعد النفسي للشخصية تقرأ كنص متداخل بين نصوص تتفاوت في بعدها المعرفي، بمعنى المفهوم الذي يقود إلى التَّنَاص، ومع ذلك يُنشئ عالماً موازياً للخطاب الروائي على قدرة النص في التفاعل مع النصوص الأخرى.

التنبؤ والتأويل قراءة متجاوزةّ

عبر تلك المساحة المحدودة حجم الرواية قرأت واقعها المكاني قراءة استباقية تنبأت عبر حركة الشخوص الروائيّة ومسار الأحداث بأحداث دامية بُعيد سنوات قلائل من نشرها؛ فكانت أن استحقت أن تُوصف بالرواية التنبوئية Predictive” لرسمها لحدث لم يكن موجوداً وإن أشارت إليه علامات يصعب تفسيرها خارج بنية الخطاب الروائي. فالحدث لا يقع إلا بتسلسل أحداث تجعل منه فعلاً قابل التحقق. فالروائي لا يرسم هذه الأحداث لينتظر حدثاً مرغوباً فيه كنتيجة. نعود على التأكيد بأن الاستباق Anticipation” ليس مفهوماً زمنياً للشكل الأسلوبي للخطاب الروائي وفق التصنيفات النقدية، ولكن انفلاتاً من إسار النص إلى الواقع، أي قراءة الحدث الروائي في بعده الموازي المستقل والمحسوس واقعاً. وهو ما أشارت إليه مقدمة الترجمة الإنكليزية لرواية تُخُوم الرَّماد بأن خيال الروائي ليس إحداثيات هندسية يمكن تتبعها، ولكن يظل مصدر طاقة لا يقاوم لتفعيل رؤى الخيال السردي. فالمشاهد الغريبة المفزعة التي ارتسمت على عناصر الرواية البنائية التي تمثلها السرد لم تكن منفصلة عن حالة الانشطار النفسي الذي يعانيه الروائي كحالة آخذة بتلابيب الراوي دون أن تفصح عن علاقة متصلة بموضوعات واقعه الذي لم تفلح معه الاستعارات اللغوية الموسعة في التخفيف عن ألمه وقلقه المستبد. فلا يكاد الراوي يتوقف متدخلاً في سياق انسياب السرد عن بث ألمه وظلامه المؤلم والدوار الذي لا يبرحه تلك اللحظة التي وصفها هيغل بوعي لحظة ألم العالم .

النهاية المأساوية لقرية أمْ عُضَام المكان الافتراضي الذي ينتمي إلى بنية اجتماعية قبيلة ومكان صحراء وحرب العصابات المسلحة مثّل المواجهة بين العنف والفساد كنتيجة لمغامرات شخصية السلطان وسليم أمبدي. فإذا لوحظ أن المكان أمْ عُضَام قد تحول بين الوجود الواقعي كمكان وزمان الاستباق والتنبؤ والخيالي إلى مزيج متخلق من قدرة النصّ الفعلية على استخدام الرموز في محاولة مستنفدة للفعل السردي لاسترداد مجريات الواقع بأدوات استقرائية تكتسي الصفة الإبداعية. فالتنبؤ كفعل يقع في أقصى حدود التأويل في الزمن والذاكرة، يتجاوز اللحظة إلى المستقبل حين تسهم الآليات الإستراتيجية ومنها قراءات النصّ الروائي في تفسير النتائج؛ ومع ذلك لا فهو ليس نبوءة إخبارية محتومة التحقق لها بعد غيبي. وبهذه النهاية التي قدمها الراوي في رواية تخُوم الرَّماد تلِّح على السؤال حول إمكانية نقل ما يدور في الواقع بدقة أكثر مما هو عليه عبر الخطاب الروائي والتمثل الجمالي في حدود الرؤية المعرفية التي تسمح بتأويل المعاني والرموز العلامات . إذن تبقى التجربة الإبداعية في جدل مستمر مع ظواهر حقائق الوجود الإنساني.

ليست هناك تعليقات

كافة الحقوق محفوظةلـ مدونة منصور الصويم 2016 | تصميم : رضا العبادي