-->

الاثنين، 5 يناير 2015

(أشباح فرنساوي).. تعددية المُخَاطَبِينَ والرُّواة - حاتم الكناني



(أشباح فرنساوي).. تعددية المُخَاطَبِينَ والرُّواة - حاتم الكناني

ستصير ملابسات موت عوض فرنساوي، هي الحدث الأكبر الذي سيعيشه محمد لطيف، وما يشحذ روحه للكتابة “هكذا إذن، يا فرنساوي، يقضي محمد لطيف أيامه مشحوناً بك ومعذباً، منذ أن تلقفك هذيانات متشنّجة من فم الرقيب بشير ذات سكرة في يوم خميس بعيد”؛ وستتناثر حوادث الخميسات النيالاوية مختلطة بخميسات السامراب شمال وشاشة التصحيح بصحيفة الزمان اليومية السياسية؛ وستخترق خيالات محمد لطيف عفاف ومعلمتها نادية ريتشي التي “لن تعرف أبداً أن شرطي المباحث الوسيم المسمى بشير، الذي لا يشبه رجال البوليس الدميمين كما كانت تقول، هو من ورّط عفافها واستبقاها إليه قريبة من القلب بعيدة منه.. لن تعرف أبداً”. هكذا سيختار الصويم لنادية ريتشي مصيرها وهي التي لا تعلم –أيضاً- أنها ستموت بعد عام وستة شهور بإنجمينا في ليلة داعرة.

يبني منصور الصويم روايته (أشباح فرنساوي) أمام عين القارئ، عبر محمد لطيف المدقق اللغوي بالصحف والقاص والناص الذي ظل يطارد شبح عوض فرنساوي، متنقّلاً عبر راوييْن آخريْن للحادثة (الرقيب بشير دفع الله، الملازم ياسر)، أو بما يختمر لديه -وهو الكاتب المفترض للرواية- من هذيانات وأحداث مختلطة، والذي تصبح يومياته كُلاًّ منسرباً داخل رحلة البحث عن قصة موت عوض فرنساوي بين مكانيْن وزمانيْن مختلفيْن.

ينبعث السرد من خلال راوٍ عليم يخاطب تارةً فرنساوي، ولا ينسى أن يراقب الرواة (محمد لطيف، بشير، وأخيراً ياسر): “يُدرك محمد لطيف، أنك ستُحمل جثة هامدة على صندوق عربة بوكس 78 مكشوفة، وجسدك ملفوف بثوب من الدموريّة، وأنك ستُغْسَل على عجل بغرف غسيل الموتى الغرباء بمقابر حي الكنغو، وستُدفن في ذات المقابر بمساعدة نفر قليل من عمال المستشفى وبعض زوار المقابر العابرين. يدرك هذا مثلما يدرك أن ملف موتك المغلق والضائع لن يَفتح صفحاته المصفرّة بعد أعوام طوال أحد سواه، حين تجمعه ليالي سُكر مدمِّرة مع رقيب مثقّف منسحب من البوليس اسمه بشير دفع الله جاد السيد، يقضيان الليالي يصرخان وهما يناديانك ويأسفان؛ يأسف محمد لطيف؛ لأنه جاء إلى العالم بعد انصرافك، ويتأسف بشير لأنك تركت العالم وأودعته العذاب”.

يتخذ كلٌّ من محمد لطيف وبشير دفع الله، موقعهما من واقعة موت عوض فرنساوي ثم يتبادلان – خلال الرواية التي يكتبها محمد لطيف – الإمساك بالوقائع: الأول تصبح يومياته مثاراً لاستدعاء واقعة الموت؛ والأخير يمثل مصدراً آخر لاستدعاءات الأول.

يكرر الراوي العليم كلمة (يدرك) ملحقة بمحمد لطيف، وهو لا يرغب له أن يكون ناقلاً أميناً لملابسات موت عوض فرنساوي؛ بل يريد أن يجعله باحثاً عن ما حدث في مكان آخر (نيالا)، متأرجحاً بين راوييْن: بشير البوليس والابن البكر لأسرة مات عائلها الوحيد وتركها مكشوفة في عراء الفاقة والعوز، والمثقف الذي يبحث محمد لطيف في رواياته عن شبح فرنساوي؛ وياسر الملازم المحكي عنه في -على لسان بشير- بوصفه انتهازياً صغيراً، والذي يشارك عوض فرنساوي حبَّ عفاف زوجة بشير، منتقلاً في أحد فصول الرواية ليصبح أحد مصادر محمد لطيف في بحثه الروائي.

بمكرٍ وسخريةٍ؛ تندفع دقائق محمد لطيف اليومية داخل مكاتب صحيفة الزمان اليومية السياسية، وتتخلق معاناته مع العمل؛ حبيبته ساندرا التي تزوجت بآخر؛ ليالي السامراب شمال وصباحاتها مع شلته ذات الشخصيات السرابيّة: جنُّون، الشاعران البرثنيان، إشراقة المنبرشة بلا حدود، والأخرى العاشقة –أيضاً- بلا حدود.

تنبني شخصيات ليالي السامراب شمال بصورة موغلة في شبحيَّتها، وتتخلَّق كظلال شخصيات مكتفية بالإشارة إلى مثبطات اجتماعية وسياسية للتمرد الشاعري الذي يسكنها، كما يسكن محمد لطيف الذي يعاني مشكلاتٍ مع مرؤوسيه.

وبالمقابل تتجذر شخصيات نيالا بين طبقتيْن اجتماعيّتيْن: الأولى هي طبقة الجلابة وتجار البن المغندلين، وقدامى الموظفين العابرين وغيرهم من الحالمين والهاربين، والمقامرين وتجار الجُملة القادمين من المركز، وأولاد الشيوخ المحليين؛ أما الثانية فهي طبقة بائعات الشاي المتضامنات في سوق ملجة ستّات الشاي الجديد؛ الذي تكوَّن إثر الحروب الصغيرة، والمجاعات المباغتة التي ضربت الإقليم.

تلتحم الطبقتان في خميسات السكر والدعارة بحي تكساس في كشف لمركزية السلطة المطلقة وممارساتها مختزلةً في شخصية العقيد مدثر الجاك لتروي تعقيدات نفسية واجتماعية من خلال حادثة لقائه بست أبوهم، وما نتج عنها من اقترابه من الرقيب بشير، ثم لقائه بالراعي ذي العينيْن الكحيلتيْن اللتين ظلتا تطاردانه بشفقة وحنق في آنٍ، وعلاقته بجمال مسعود بائع العقاقير والممنوعات وصناديق الويسكي والشري، الذي قاده إلى الفكي أب باغات ليُخرجه من أزمته النفسية.

يكتب محمد لطيف محللاً مركزية السلطة الحكومية متمثلةً في جهازي الشرطة والجيش: “في مدينة تتكون حديثاً؛ آخذةً منحنى تنافسياً جاذباً للمغامرين من التجار والموظفين والحالمين والهاربين، مدينة زرعتها الجغرافيا عند التخوم القصيِّة، وقرنتها السكك الحديدية بتوهمات العاصمة وتقلبات مركزها؛ في مدينة كهذه تصبح لرجال الشرطة والجيش أهمية مبالغ فيها”.

تتمدد سلطة العقيد مدثر الجاك لتحدد مصير عوض فرنساوي.. العقيد الذي يصير محاصراً بالمشاهد الدموية وصرخات القتلى في مطارداته الناجزة، يصير محاصراً بالعينين البدويتين الحارقتين؛ وأخيراً بجسد فرنساوي الضئيل المسحول.

تظهر ميناس (المصححة الجديدة في صحيفة الزمان السياسية اليومية)، في حياة محمد لطيف في تبادلية مع ساندراه التي فقدها، وتأخذ دورها الجديد في ملامسة جسد وقائع حياة وموت فرنساوي؛ وتعيد إنتاج شخصية محمد لطيف بوصفه موضوعاً لروايتها المكتوبة في فضاء احتمالي آخر: “يا ربي هل أنا نداء محمد لطيف الباقي، أم تراني صدى مشروخاً في درب أيامه الذاهلات؟ هل كنت أقدر على الكتابة عن محبة خاله وزوجته له وتعلُّق صغيرتهما (سما) به؟ عن مساحات العواطف والعواصف الممتدة بينهم؟ وبيت العزابة، الذي كان يحل به كفندق، وعن ساكنيه من أبناء قريته الضائعة بين حواشات الجزيرة؟ فكرت في لملمة في كل ذلك، وتقشيره وتتبيله وخلطه من جديد ليخرج محمد لطيف آخر، يلج أزمان الكتابة عن تعقيد متوهّم ظننته، وعن طيبة موغلة اكتشفتها.. لكني لم أكتب سوى ما أملته الكتابة وانجرافاتها، وفخاخها التي لا تنقطع”. وتخاطب مرةً محمد لطيف قائلةً: “ما عارفة، لكني عملت منو كوبي، نصك الأصلي ونص قرايتي الخاص، اشتغالي.. بالجد بديت أشتغل عليه مرة مرة. عملت فيهو عمايل، ما ح تعرفه.. ما تزعل مني، بس حسيتو زي كأنو هو وأنت أنا”.

يسعى منصور الصويم من خلال رواية (أشباح فرنساوي) إلى بناء عالم متعدد الأصوات كما هو متصور لدى ميخائيل باختين، وينشئ ذلك من خلال تعددية الرواة والمُخاطبين، وإيجاد تداخلات زمانية ومكانية وهذيانات ومفارقات ثقافية مسبوكة باحتراف بحيث تحتمل الرواية عدة روايات، محلّقة بين حقائق متناثرة بين الرواة.

ـــــــ

ما بين الأقواس “…” مقتطف من الرواية.

*حاتم الكناني

* شاعر وصحافي سوداني
* مجلة البعيد

ليست هناك تعليقات

كافة الحقوق محفوظةلـ مدونة منصور الصويم 2016 | تصميم : رضا العبادي