-->

الجمعة، 25 أغسطس 2017

قصة آدم: التناص المقلوب لتعرية الفساد منصور الصويم


قصة آدم: التناص المقلوب لتعرية الفساد
منصور الصويم


في رواية (قصة آدم فوق الأرض تحت الأرض)، للروائي السوداني، عاطف عبدالله، يبدو حضور الإنسان طاغياً ومثقلاً بالأزمات الوجودية من جانب، والاختناقات الحياتية اليومية من جانب آخر، محصوراً ما بين التفكك والزيف الاجتماعيين، والعسف والفساد السياسي الذي تدار به آلية الحكم في بلاد تتدحرج صوب الهاوية مثل السودان.
مفتتح الرواية الأسطوري، باستناده على قصة هبوط آدم إلى الأرض، وعرض حالة الجزع التي أصابته حين قتل أحد ابنيه الآخر؛ يحيلنا مباشرة إلى التشكل الرمزي لأول “بذرة شر” أنبتها الإنسان في لحظة وجوده الأولى، وما أورثه للبشرية من “جرثومة الشر”. ينبثق عن هذا المفتتح – أو المدخل – أول الفصول من حياة “آدم” بطل الرواية، الذي لم يخل تاريخ مولده من أسطرة رمزية وغرائبية أيضاً، إذ تشهد هذا المولد الملائكة والشياطين في وقت واحد، في حالة من التنافس الاستبصاري لمآلات المستقبل، مع تصعيد أمنيات كل فريق بأن تميل كفة المولود – آدم، إلى مجالها الأخلاقي – في حال الملائكة “الخير”، وفي حال الشياطين “الشر”. هذا الاهتمام الغرائبي بالمولود الجديد، يعود أصلاً إلى تميزه بين أبناء قريته. تميز يتصاعد مع نمو الرواية، حتى نكتشف أنه تميز على المستوى البشري والكوني برمته، فآدم هذا ابن لآدم يسبقه، وهو ابن لآخر سابقٍ يسبقه آدم. ففي هذه العائلة الرمزية – الأسطورية، يذهب الاسم “آدم” تلقائياً إلى الذكر البكر، ولم يحدث قط أن انقطع هذا التسلسل الآدمي يوماً على مر العصور، وهو ما كاد يتحقق مع آدم الجديد – بطل الرواية – ليكون بذلك لو حدث – آخر سلالة “بني آدم” على الأرض.
إذن، من آدم الأب “الأسطوري”، وحتى آدم “الرمزي” المولود في بلدة سودانية قصية “تميل إلى الغرب وتتكئ على الجنوب وتُنسب إلى الشمال”، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، محفوفاً بحب الأهالي ودعواتهم، ملاحقاً بلعنات الشياطين ونقمتهم، ومحروساً بأجنحة الملائكة ونياتهم الطيبة؛ مع هذا المولد الموحي، تتأسس السيرة الشخصية لهذا البشري المتنازع ما بين الجمال والقبح، في رحلة تكشف الوجه الآخر لهذا البلد المضاع بيد أبنائه قبل أعدائه.
*تناص مقلوب
يتحقق في هذه الرواية، بامتياز، ما يمكن أن أصفه بالتناص المقلوب، حيث تستدعي مجريات السرد بشكل خفي أحداثاً ومواقف تتشابه وتتقاطع مع وقائع رواية أخرى شهيرة، هي رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للروائي الكبير الطيب صالح، وما يجب التنويه إليه هنا أن هذا الاستحضار – أو التناص المقلوب – يختلف تماماً عن عملية الذوبان التي مارسها عدد كبير من الروائيين السودانيين والعرب، تأثراً برائعة الطيب صالح، فصورة المهاجر – الغريب والعائد تأتي مناقضة تماماً لصورة مصطفى سعيد، بطل موسم الهجرة، من حيث تركيبها النفسي وبعدها المعرفي وموقفها الأيديولوجي، كما أن “الشمال” المستحضر هنا يختلف تماماً عن ذلك الشمال البارد المستلب والمستعمر، الذي قاتل طواحينه مصطفى سعيد في حربه الخاسرة. هنا شمال آخر، طبيعي، متقبل، إنساني، عادي أكثر منه كولونيالي متعالي ومتكبر. إذن، مثلما يسافر بطل (موسم الهجرة) لعقود إلى الشمال؛ يسافر آدم ويستقر ويتنقل في أوروبا لأكثر من ثلاثين عاماً، يتعلم خلالها اللغة ويثقف نفسه بنفسه، ويمتهن من المهن وضيعها وعظيمها، إلى أن يقرر العودة طوعاً إلى بلده السودان، مأخوذاً بفكرة الاستثمار في بلدته البعيدة “سفح الجبل”. يتشابه بطلا الروايتين أيضاً في تعلقهما بالنساء والجنس، وقدرتهما على إغواء الأنثى وخداعها. لكن في حين يرى مصطفى سعيد “غزواته الجنسية” مع الإنجليزيات رداً للاعتبار وانتصاراً في حرب طواحنية ضد “المستعمر القديم”؛ لم يكن آدم ينظر إلى المرأة إلا بوصفها أداة ملذة لإمتاعه، ووسيلة أو جسراً لعبوره من مكان إلى آخر في الجغرافيا والثروة والمجتمع. دناءة وخسة جمعت الاثنين في علاقتهما بالمرأة، لكنهما افترقا في الدوافع والنتائج، فبينما تحرك الأول من نفسية مريضة معقدة انطلق آدم من أرضية واقعية – اجتماعية تتصف بالانتهازية والتحايل على الحياة ليس أكثر: “عشت حياتي تحركني غرائز بوهيمية لا رقيب أو حسيب عليها. كنت أكسب من دون أن أتكلف شيئاً. تعيشت بصيد النساء الباحثات عن المتعة والمتاجرة بالفتيات الباحثات عن الشهرة والثروة، وتحولت على مر الأيام إلى كائن طفيلي يأخذ ولا يعطي”. ومثلما تنتهي رحلة مصطفى سعيد في لندن محطماً ومتهماً بالقتل “قتل الأنثى”؛ ينتهي آدم كذلك بالتهمة ذاتها وبالثقل النفسي المدمر ذاته. بيد أن الاثنين يتقاطعان في الأثر النفسي لحادثتي القتل – الموت، وفي المقابلة الصورية لكل منهما داخل المجتمع الأوروبي. مطصفى سعيد رغم فظاعة جرائمه إلا أن الجميع بمن فيهم القضاء والنيابة كانوا يميلون إلى جانبه والاحتفاء بعبقريته ومحاولة تبرئته ورعايته، في حين واجه آدم احتقاراً وتجاهلاً ومحاولة جادة لسحقه: “لقد لفظتني أوروبا كعقب سيجارة. ثلاثة عقود لم تشفع لي، فبعد أن خمد دخاني وتحول فيها تبغي إلى رماد داست عليّ بأقدامها كالحشرة الحقيرة”. عاد مصطفى سعيد إلى بلاده حاملاً روحاً مختلفة تهدف إلى الإعمار والإنتاج، رغم أن دواخله ما تزال منسوجة من “الأكذوبة” التي تكونه وتحيل حياته إلى مأساة. عاد آدم إلى بلدته القصية محملاً بفكرة الإعمار والإنتاج نفسها، طاوياً في داخله كل نيران الإهلاك التي أثقلت كاهله طوال سنوات عمره المنقضي تشرداً في أوروبا. ارتاح مصطفى سعيد من ثقل مأساته في قرية الشمال البعيدة، وهو ما فعله آدم الذي أناخ مأساته تماماً عند “سفح الجبل”، بلدته القصية في الغرب. كان مصطفى سعيد احتجاجاً عقلياً “مضطرباً” ضد الاستعمار أهلك نفسه ودمرها، وكان آدم صورة نفسية للبعد الاحتجاجي ضد الفساد الداخلي لبلاده الذي مثل وجها آخر للاستعمار، لكنه بيد أبناء الوطن الذين أشعلوا النار ودشنوا الخراب.
*السلطة، الآخر، السجن
تتوغل قصة آدم في واقعية متعرية، وتتخفف مع تقدم ميكانزمات السرد في جانبها الرمزي – الأسطوري، عدا إحالات متقطعة تظهر في كل فصل من فصول الرواية، لتعكس الأزمة الوجودية والكونية التي يعايشها آدم وأبناء قريته، المتمثلة في احتمالية فناء النسل الآدمي، نتيجة لعدم إنجاب آدم جديد من صلب آدم الموجود، حتى يصل القارئ إلى نهاية الرواية ويفاجأ بآدم هجين، يجدد النسل المقدس في بلاد بعيدة عند أقصى الشمال.
التوغل الواقعي المشار إليه – تروى الرواية بضمير المتكلم عدا المفتتح والخاتمة القصيرة – يكشف عن عنف سلطوي تمارسه الدولة بكل نظمها وقوانينها وأيديولوجيتها ضد الفرد “الإنسان السوداني”، المعزول والمواجه أبداً بالإدانة في محاكم “المجتمع، العسكر، المركز الثقافي والسلطوي”. عودة آدم إلى الخرطوم، السودان، بلدة “سفح الجبل”، تضعه في مواجهة مباشرة مع كل التفكك والتقشر المجتمعي التاريخي الذي حدث خلال فترة غيابه الطويل في أوروبا. نتائج المغامرة خلال غربته كانت كارثية، لكنها كانت باختياره، ومقابلاً طبيعياً لتجريبه البشري المحض. أما ما حدث له في السودان – الخرطوم، وبلدة “سفح الجبل” بعد العودة؛ فجاء من الخارج، وبعده المأساتي ينقل تلك الحالة من التحلل التي تسبق الانهيار الكامل: أصدقاء سلطويون، ورجال أعمال فاسدون، سهرات ماجنة، ومغنون ومغنيات بائسون، مثقفون مقهورون، نساء مقهورات، محاكم وقضاة، وسقوط في فخ السلطة المتحالفة مع الأيديولوجيا ضد الإنسان.
“علوية الملونة مطربة شعبية كانت سوداء البشرة وبفضل الكريمات ومستحضرات التجميل تبدل لون وجهها إلى بني فاتح تتخله هالات صفراء وبقع حمراء، حتى صار يطلق عليها علوية الملونة”. من خلال الطرق على السخرية الحادة، تسائل الرواية قضايا العرق واللون والانتماء العرقي في السودان، تُبرز العنصرية المتخفية وراء الزيف الاجتماعي وتقدمها في لحظات صفاء النفس وانسجامها مع مشبعاتها الطبيعية، مثلما يحدث في جلسات الأنس والتعهر التي تجمع آدم بصفوة المجتمع الخرطومي المتعالي على الآخر في إحدى مزارع الأثرياء، فالغناء والجنس والخمر والمخدرات، هي متطلبات هذه الحياة، والرابط الجامع بين جنرالات وقضاة ورجال أعمال وشعراء موجة الانكسار.
تجربة السجن، والمحاكمة التي يتعرض لها بطل الرواية آدم، تضعه في عملية مقارنة قاسية بين ما حدث له في أوروبا وما يحدث له هنا، فهناك أنصفته العدالة رغم أنه كان مخطئاً، وهنا في السودان سيزج به في السجن رغم براءته من التهمة وتقديمه كبش فداء لكبار رجالات المجتمع والسلطة: “هناك وأنا غريب، وفي الغرباء فعلت أشياء عدة تستحق العقاب وكنت دائماً ما أفلت. أما هنا ومن المفترض أني لست غريباً ولست وسط غرباء، لم أفعل شيئاً وها أنا أعاقب”. تستعرض الرواية عبر صوت “الأنا” صور الظلم الممارس على الإنسان السوداني، ليس لأي جريرة سوى عاديته، أو لونه، أو جهله المفترض. تحالف السلط الفاسدة يسحق هذا الإنسان تماماً، مثلما حدث لأحد المسجونين الذين صادفهم بطل الرواية آدم أثناء وجوده في السجن.
*رحلة في جسد الفساد
رواية (قصة آدم فوق الأرض تحت الأرض)، ما هي إلا قصة الفساد الذي نخر جسد الوطن السوداني، الفساد الذي يتمظهر في علاقات السلطة التنفيذية مع المواطن “الشرطة والسجون والقضاء”، الفساد المحروس بقوة القانون في تعاملات رجال الأعمال وتجار المخدرات وسدنة الموت، تحالفات الأيديولوجيا التي تلغي الآخر، تقدم القبيلة وسيادتها مقابل تراجع دولة المواطنة ومطالب التعايش السلمي. في رحلته المعكوسة، من أوروبا إلى السودان؛ يعري آدم نفسه، ويعري معها جسد الوطن المثخن بجراح المفسدين والأشرار، ممن تحكموا في مفاصله وساقوه نحو النهاية المشابهة لنهاية آدم نفسه: الاحتراق.
حشد الروائي عاطف عبدالله في هذه الرواية القصيرة البديعة (211 صفحة من القطع المتوسط) صوراً ووقائع متنوعة ومتداخلة، تبين حجم التفكك الذي أصاب الجميع، بدايةً من الدولة المتحللة وليس انتهاء بموظف بنكي في مصرف إسلامي في بلدة نائية، لا يدرك قاطنوها فرقاً كبيراً بين “الربا والمرابحة”. الجنس والمرأة يلعبان دوراً أساسياً في هذه العمل الملحمي الكبير، فصعود وهبوط آدم – بطل الرواية – مرتبطان شرطياً بعلاقته بالمرأة، الحبيبة والعشيقة والبنت والزوجة المفترضة. المرأة في هذه الرواية هي التي تفضح آدم وتعريه أمام ذاته، وهي التي تمرغ آدم في وحله الجرثومي الموروث، وهي من تهب البشرية آدم آخر يجدد المسير بعد فناء آدم “المتفكك” عقب عبوره رحلة الفساد والتعفن الأخيرة في سوحه الوطني الأخير. مأساة آدم، القروي، المديني والكوني، غذتها تجربته في جسد الخرطوم المتعفن بفعل الفساد والإقصاء وسيادة الظلم والأنانية كقيمة أعلى.
*نشرت في مجلة الحداثة السودانية


ليست هناك تعليقات

كافة الحقوق محفوظةلـ مدونة منصور الصويم 2016 | تصميم : رضا العبادي